جامع السقاية أم جامع المرتضى؟
لما كثر العلماء , وتوفر عدد الطلبة بمراكش , فكر أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين في إنشاء جامع يؤدي وظيفتين : الوظيفة التعبدية , والوظيفة التعليمية, فشرع في تشييد الجامع ـ الذي ظل يحمل اسمه عبر القرون والأجيال ـ سنة 514 هـ/ 1120م.
وسمي الجامع أحيانا بجامع السقاية, نسبة إلى السقاية التي أحدثها علي بن يوسف إزاءه, قال أبو علي صالح المصمودي : … بنى علي بن يوسف قبلة جامع السقاية وجعل محرابه في الجدار الذي يلي القطانين فحولت بعد ذلك إلى الموضع الذي كان فيه الآن, وموضع المحراب الأول معروف إلى الآن ).
ونرى ذلك في بعض الكتب المحبسة على المسجد مثل مصحف المرتضى الموحدي الذي كتبه بيده في عشرة أجزاء ويعد هذا المصحف أقدم مصحف معروف مكتوب بالمغرب, وقد حبسه على جامع السقاية كما جاء في عبارة التحبيس. (حبسه كاتبها بيمينه عبد الله عمر الموحدي على من يقرأ فيها من المسلمين, وكان استقرارها بالبيت المعد للمصاحف المحبسة قبلها بالقبلة المتصل بالمحراب هناك, وكتب في الثاني من رجب 656هـ وتحته إمضاؤه.
والتوقيع هذا صحيح نحن أمرنا به وأن يشهد علينا بمضمنه إن شاء الله عز وجل, وذلك في التاريخ المذكور جعل الله ذلك ذخرا لدينا).
كما سمي بجامع المرتضى في بعض المصادر, لأن هذا الخليفة أعاد بناءه من جديد سنة 654هـ / 1256م بعد أن خربه الخليفة عبد المؤمن الموحدي .
استشارة الفقهاء لتصويب القبلة:
ويحدثنا التاريخ أن الأمير اعتنى اعتناء فائقا بهذا الجامع, وحشر لتصويب قبلته أربعين فقيها من فقهاء الأندلس من بينهم ابن رشد الكبير ومالك بن وهب وغيرهما .
يقول أبو علي صالح المصمودي : [ ولم يكن في المغرب الأقصى محراب اشتهر أن الفقهاء أجمعوا على تصويب قبلته عند بنيانه فيما بلغ علمنا إلا مسجد واحد هو مسجد علي بن يوسف بمراكش.
فجمع علي ابن يوسف على تصويب قبلته أربعين فقيها أو أكثر فيهم مالك ابن وهب, وأبو الوليد ابن رشد صاحب البيان].
وعندما دخل عبد المؤمن الموحدي مدينة مراكش بعد حصار دام سبعة أشهر, قام بتنفيذ وصية المهدي بن تومرت التي يقول فيها :[ لا تدخلوها حتى تطهروها ], أي مراكش وقد فسر الفقهاء الموحدون هذه الوصية بكون أن المساجد المرابطية منحرفة عن القبلة الصحيحة, فكان لابد من تطهير المدينة من هذه المساجد بهدمها وتعويضها بأخرى ذات الاتجاه الصحيح.
يقول الحسن الوزان : [وقد هدمه عبد المؤمن وأعاد بناءه بغرض واحد هو أن يمحو اسم علي ويجعل اسمه هو مكانه, فذهب عمله سدى, لأنه لايجري على ألسنة الناس الآن إلا الإسم القديم].
إصلاح المسجد وإعادة بنائه:
ثم أعاد بناءه الأمير المرتضى الموحدي سنة 654هـ /1256م, ثم جدد في العهد المريني يوم بنيت المدرسة إزاءه من طرف يعقوب المريني, ثم أتمها أبو الحسن, ثم أصلحها عبد الله الغالب بالله السعدي سنة 973هـ /1565م, وفي عهد المولى سليمان العلوي أعيد إصلاحه وبناء صومعته الحالية عام 1235هـ / 1819م.
وبنايته الحالية لاتمثل إلا جزءا من المساحة التي كان يشغلها في العصر المرابطي.
مركز العلم الذي تشد له الرحال:
ومنذ أن أسس هذا الجامع وهو مركز من مراكز العلم والثقافة, تشد إليه الرحال, وتعج رحابه بالعلماء وشيوخ العلم, يتنافسون على الإمامة والخطابة والتدريس به. ( وقد تم تفصيل ذلك في المقالة التي نشرت بهذا الموقع تحت عنوان : عوامل النهضة العلمية عند المرابطين ) فانقطع إليه من الأندلس من كل علم فحوله, واجتمع له من أعيان الكتاب وفرسان البلاغة مالم يتفق اجتماعه في عصر من العصور.
وللمسجد ذكر حافل من قديم, فقد قيلت فيه كلمات ثناء وتعظيم, منها ما قاله سعيد بن عبد العظيم : [ عجبت لمن يقول مراكش لغير جامع بن يوسف ].
وجاء رجل من أكابر أهل فاس لزيارة الشيخ سيدي أبي عمرو القسطلي, فالتقى به في ملأ من الناس , فاستحضر الزائر معه من الأدب ما يستحضر الأكياس, فسأله الشيخ عن البلد وسكناها فقال له الزائر من جهة التعجب والتعظيم :الله الله إن جامع القرويين يكاد ينبع العلم من حيطانها , فقال له الشيخ: الله الله إن جامع ابن يوسف يكاد السر ينبع من حيطانها, فانقطع كلام المتكلم, حين ظهر له مابين السر والعلم ]
مئذنة المسجد:
هي بناية عظيمة من حجر إيجيليز, ضلعها اثنا عشر مترا. وإذا صح أن مآذن هذا العهد يضاعف ارتفاعها عرضها ثلاث مرات, فالمئذنة إذن كانت ترتفع إلى ستة وثلاثين مترا, فكانت تشرف على الحي.
فهل كمل بناؤها؟
لقد مكن الكشف عن المئذنة من العثور على الباب الذي كان قبالة المسجد ينفتح على الصحن, وعلى هذا الباب درجان يمنة وشمالا. ويذكرنا هذا التصميم بمئذنة مسجد قرطبة, ويؤكد بعض أوجه الشبه نظنها مقصودة, وهي تؤكد ما فرضناه في تصميم المسجد(2)
ويقول ابن القطان : ( وبنى صومعته نحو الثلث, وتركها تتقعد, ثم أتم بناءها سنة سبعين وعشرين ). أما المئذنة الحالية فهي من بناء المولى سليمان العلوي.
القبة المرابطية:
تعد هذه القبة من أروع الآثار العمرانية المرابطية. وهي من ملحقات الجامع وتوجد في منخفض ومستطيل الشكل [5.30م ×5.50م], على علو يبلغ 12م.
[ جدران قبة البارودين بمراكش من الحجر الآبد, والقبة الصغيرة من الآجر, وتغطيها من الداخل زخارف من الجص , وعقودها الثمانية التي تكونها تتقاطع في تصميم يشبه تصميم عقود القبة التي تتقدم المحراب في جامع قرطبة, وتترك بتقاطعها في الوسط مضلعا اثني عشريا, تغطيه قبة مفصصة تكاد تشبه القبة التي تشغل نفس المكان في النمودج الأندلسي, بيد أن عقود هذا النمودج ـ وهي نصف دائرية ـ يقابلها في قبة مراكش عقود متداخلة الأقواس تتألف من فصوص أو عقود دائرية تفصل بينها زوايا قائمة.
وتغطي السطوح الواقعة بين منابت العقود زخارف نباتية دقيقة من الجص المقطع, تدور بصدفة في كل رقعة, وتعقد الأشكال وتنوعها, وكثرة الزخارف ووفرتها , يضفي على هذا العمل الفريد ـ الذي يتصل فيه تيار الإسراف في الزخرفة المتمثل في قصر الجعفرية بسرقسطة ـ طابعا أندلسيا متميزا ]. وهي عبارة عن قاعة لوضوء المصلين.
المراجع :
1ـ ذ. أحمد متفكر
مساجد مراكش عبر التاريخ
من التأسيس إلى العهد العلوي
الصفحات : 50 -51 -52 – 53 ـ 54
الناشر :مؤسسة آفاق للدراسات والنشر والاتصال
الطبع : المطبعة والوراقة الوطنية ـ مراكش
الطبعة الثالثة : 1431هـ / 2010 م
2ـ غستون دوفردان
تاريخ مراكش من التأسيس إلى الحماية ( 1912م)
ترجمة الأستاذان : محمد الزكراوي وخالد المعزوزي
الصفحة : 139
الناشر: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية
الطبع : دار أبي رقراق للطباعة والنشر
الطبعة : الأولى 1433هـ / 2012م