تطور وازدهار الطب بمراكش
جودة التآليف وبراعة الأطباء
تطور وازدهار الطب بمراكش
جودة التآليف وبراعة الأطباء

 

 

لا أقصد من كلمة الطب هنا غير ذلك المعنى المتعارف عند الأقدمين, في الدلالة على معالجة الأبدان بواسطة تشريح أو تغدية ,مما كان نواة لتشييد أركان الطب العربي في دولة الإسلام التي كانت لها العناية التامة بترقية مهنة الطب في شتى العصور ,لأن الطب بضرورة العمران يساير التمدن البشري الذي قرن بنهضة الإسلام مند نشأت الدولة العربية .

مكانة الطب ضمن المعارف الإسلامية:

قد أخذ الطب حظه من الرقي في عهد بني أمية بدمشق الفيحاء, ثم خطى خطوات شاسعة في بغداد عاصمة الرشيد في صدر الدولة العباسية , حيث تزود بكل ما يحتاج إليه باستعراب الكتب اليونانية وغيرها,مما نفقت به سوقه في ذلك العصر الذهبي الزاهر ,الذي بلغت فيه الحضارة العربية أرقى ما يحفظه التاريخ لدولة عظمى.

ولابدع, فإن الطب أولا كان يبتدأ المقام الأول في المعارف الإسلامية, لتوقف التمدن عليه ,بقدر ما يتوقف العمران على سلامة الأجسام, لذلك كان في طليعة العلوم الاسلامية التي سايرت العمران بصور ملونة تلفت الأنظار ,حيث وصلت الى أرقى ما أنضجه التفكير في القرون الوسطى لدى الشرقيين.

وما كانت قرطبة وغرناطة وإشبيلية بالأندلس إلا مدراس راقية لتخريج الصيادلة والأخصائيين , من فحول الأطباء , يشهد بذلك ما ألف في ذلك العهد من كتب إسلامية راقية, وقف الطب الحديث أمامها خاشعا يستوحي الصواب ,مما رسمته في خصائص الأجساد من اعتبارات فنية, يتجدد مع الطب الحديث استصوابها كلما كشف الحكماء من خبيئات الأجسام سرا مكنونا.

أطباء الأندلس في رحاب مراكش الحمراء:

ولقد كان هذا الفن من أهم ما ورثته مراكش الحمراء أواخر المائة  الخامسة, لما سقطت عروش ملوك الطوائف بين يدي الدولة اليوسفة ، فقصدها من الجزيرة أرباب الأقلام وفحول الأطباء كأبي مروان الإشبيلي وأبي العلاء زهر بن عبد المالك بن زهر , وآخرين ممن تعد في طليعتهم أسرة بني زهر الاشبيلين، التي اشتملت على أفراد فحول أطباء الإسلام لذلك العهد.

فهذا أبو العلاء أحد حكماء المسلمين ممن كانت له اليد البيضاء على تقدم مهنة الطب في العدوتين ، قد اختار مراكش الحمراء مركزا لمزاولة مهمته الإنسانية في عهد علي المرابطي, الذي أكرم مثواه ورقاه إلى رتبة الوزارة في حكومته،لما كان له من المثل العليا في إنقاذ البشرية من جراثيم الأمراض الفتاكة بالحمراء .

اهتمام المرابطين بالطب والاطباء:

وقد كان لتأييد دولة المرابطين مدرسة الطب أثر حسن في نفسية الأطباء الذين بادروا من جانبهم بوضع تآليف مطبوعة برسم أمراء  بني تاشفين كتآليف أبي الوليد المحلي, مطلعه برسم الأمير أبي إسحاق ابراهيم بن يوسف, المسمى ب “الاقتصاد في علم الاجساد”, كما ألف غيره من الكتب الطبية, خصوصا في الطبائع البشرية وخصائص النبات التغدية, وبيان ما تستدعيه المناخات الحارة, والبادرة من الاعتبارات البدنية ، والتطورات الجسمانية ، في مختلف الأوقات من مراعاة الفصول والعقود غير أن ذلك مما ملأ الكتب الطبية لذلك الحين.

وكان له الأثر الفعال في ترويج علم الطب في الأوساط العلمية بالمغرب، وللأستاذ المؤرخ محمد الكانوني بحث خاص حول الطب بمراكش نشره بمجلة المغرب تحت عنوان 🙁الطب وأثاره بمراكش الحمراء ) حيث قال : (مند تأسيس العاصمة المراكشية أواسط القرن الخامس الهجري أخذ ملوكها من الدولتين اللمتونية والموحدية على عاتقهم بها نشر وسائل الرقي والعمران ،ورفع مستوى العلوم والمعارف، فجلبوا لها من كل فن فحوله).

إلى أن قال :(فصارت بذلك مراكش مركز السياسة والحضارة الراقية، وخلفت قرطبة في سياستها ورقيها،وبغداد في حضارتها وتفوقها،ومن جملة المهن الجليلة التي قارنت هذه النهضة الميمونية مهنة الطب،إذ هو ضروري لانتظام العمران ، وحفظه من التلاشي والاضمحلال).

إلى أن قال في الطب بعهد الدولة اللمتونية: (فكانت هذه الدولة التي أسست مراكش قد نشرت رواق العدل،وحسن الرعاية على كامل المغرب،وغالبا الأندلس فانقطع إليها من أهل كل فن أربابه،فاتسعت بها نواميس الرقي والعمران،حتى بلغت أوج عظمتها الخالدة في التاريخ, ومن الذين تشرفت بهم أبناء زهر الاشبيليون).

الطبيب المسلم فقيه بدينه:

فالطبيب المسلم فقيه بدينه, يزن الشرائع بمقياس القانون الإسلامي كما هو حكيم بأنظاره في بدائع الكون , عالم بأسرار التشريح وخواص الأشياء.( وقد تم تفصيل ذلك في مقال نشر في هذا الموقع تحت عنوان : ابن رشد الحفيد , الفقيه , الطبيب , الفيلسوف)

فهذا التاريخ يحدثنا عن أبناء زهر وعما خلدوه في الطب من آراء , وفي الأدب من منظوم ومنثور, وقد كان الواحد منهم يستظهر زيادة على ذلك صحيح البخاري متنا وإسنادا كما كان يستظهر من كتب الفقه مثل المبسوطة والمدونة ، وقد ذكر صاحب عيون الأخبار في تاريخه أن أبا بكر بن زهر مخضرم الدولتين كان حافظا للقرآن والحديث ،مشتغلا بعلم الأدب متقنا لقرض الشعر, ولم يكن في زمنه أعلم منه بمعرفة اللغة ، وله موشحات ، مع متانة في الدين وقوة في النفس واليقين، وقد قرأ على أبي الوليد الباجي مسند بن ابي شيبة ومدونة سحنون زيادة على مهارته في صناعة الطب.

 

 المراجع :

1 ـ محمد بن عثمان المراكشي

الجامعة اليوسفية في تسعمائة سنة

الصفحات : 210 ـ 211 ـ 212 ـ 213

تقديم ونشر وتصحيح : د . حسن جلاب

الطبع : المطبعة والوراقة الوطنية ـ مراكش

الطبعة الثانية : 1422هـ / 2001 م

مواضيع أخرى :

عوامل النهضة العلمية في العهد المرابطي

عوامل النهضة العلمية في العهد المرابطي

  لقد اقترن عصر أمير المسلمين علي ابن يوسف بنهضة علمية زاهرة اتسع بها أفق المدارك العلمية بمراكش الحمراء في ذلك العصر الذي ظهرت فيه الدولة المرابطية ، بمظهر التعمير والإصلاح لأول مرة في تاريخ المغرب لما اتخذته من الوسائل الناجعة للنهوض بالشعب المراكشي، إلى مستوى يساير...

حفلة سلطان الطلبة

حفلة سلطان الطلبة

    من ألطف وأعجب التقاليد الطلابية التي امتازت بها جامعتا ابن يوسف والقرويين دون غيرهما من سائر الجامعات الإسلامية , وأعني بها عادة حفلة سلطان الطلبة التي تقام سنويا في فصل الربيع . كيف نشأت هذه العادة؟ اضطربت الأقوال في أصل هذه العادة , ومن أنشأها ؟...

التدريس بالجامع اليوسفي عبر العصور

التدريس بالجامع اليوسفي عبر العصور

   ذكر الله عز وجل وإقامة الصلاة والتقرب إليه بسائر الطاعات هي الغايات السامية التي أنشئت من أجلها المساجد, والنظر إلى المسجد على أنه مركز علمي يجعل من أهدافه كذلك نشر العلم وتحطيم قيود الجهل وتكوين العلماء والدعاة والعمل على تحقيق نهضة فكرية وعلمية. فكان مسجد ابن...