التفوق العلمي للمغرب:
عرف العصر المريني, فيما عرف من ازدهار ملموس في العلم والآداب, تفوقا كبيرا في ميدان العلوم والرياضيات. وعلى عهد المرينيين استكمل المغرب شخصيته العلمية وتفوق أبناؤه حتى على إخوانهم العرب في الشرق في هذا المضمار.
وإذا كان المرابطون قد برزوا في علوم التشريع والفقه والجدليات والفلسفة الإسلامية والموحدون قد أحدثوا واكتشفوا وأتوا بكل جديد وطريف في علوم الطب والحكمة وفلسفة الكون وعلوم الحياة بصفة عامة فإن المرينيين قد أضافوا إلى كل ذلك تفوقا آخر في ميدان علم الكيمياء والفيزياء والرياضيات.
وبذلك تمكن المغرب من إظهار شخصية علمية لم يشاركه فيها غيره الأمم الأخرى سواء في الشرق أو الغرب , وظهر على مسرح الحياة العلمية عباقرة خالدون أمثال ابن البناء المراكشي.
مولده ونشأته:
كان ابن البناء علامة مراكش , جامعا للعلوم والفنون وهو الذي كتب المجد لهذه المدينة . كان عالما كاملا , ومؤلفا مكثرا من الرسائل في الحساب والجبر والهندسة والفرائض وأيضا في تعديل الكواكب, وقد اقترن اسمه بحساب الكسور.
ولد ابن البناء المراكشي في التاسع والعشرين من شهردجنبر سنة 1256 م. واسمه الكامل هو أبو العباس أحمد بن محمد بن الأزدي من إحدى القبائل القحطانية التي تسكن اليمن وما جاورها من جنوب شبه الجزيرة العربية , وإليهم ينسب الأنصار الذين تبوأوا الدار والإيمان وآووا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصروه لما هاجر إليهم بالمدينة المنورة .
ولقب ابن البناء بهذا اللقب لأن جده كان يمتهن هذه الحرفة , وكم من علماء أجلة كانوا أبناء المحترفين من الفقراء وبذلك تصدق الحكمة النبوية ” لولا أبناء الفقراء لضاع العلم “.
ولقب ابن البناء أيضا بالعددي نسبة إلى العدد , أي الحساب لتكريسه القسط الأكبر من حياته لخدمة هذا العلم وقيامه بتآليف كثيرة .
المسار العلمي لابن البناء:
تعلم ابن البناء على الطريقة المغربية , حيث أدخله والده الكتاب فحفظ القرآن وبعض المتون التي تسمى بالأمهات في النحو والصرف والبلاغة والأدب والفقه والأصول , وبرع في فهمها بعد دراستها على عدة شيوخ أجلة.( تم بيان أهمية التحصيل العلمي للطالب في مقالة نشرت في هذا الموقع تحت عنوان : ابن رشد الحفيد, الفقيه , الطبيب , الفيلسوف )
درس ابن البناء على عدة أساتذة مرموقين في مراكش وفاس اللتين كانتا حاضرتي العلم والمعرفة في ذلك العهد فأخذ بمراكش علوم العربية عن الأساتذة القاضي الشريف وأبي إسحاق الصنهاجي المعروف بالعطار والعروض والفرائض عن أبي الفلوس الملقب بالفار والفقه عن أبي موسى الثرتي والحديث عن محمد بن عبد المالك ابن سعيد الأوسي الأنصاري , وبفاس أخذ أيضا عن القاضي أبي الحجاج يوسف التجيبي وأبي يوسف يعقوب الجزولي وأبي محمد القشتالي , كما درس الرياضيات على الأستاذين ابن حجلة وابن مخلوف السجلماسي , والطب على الحكيم الشهير بالمريخ .
وكرس جهوده على الأخص لخدمة علوم الحساب والهندسة والتوقيت والهيئة والجبر والطب ولكنه في الحقيقة لم يترك بابا من أبواب العلم إلا طرقه , شأنه في ذلك شأن أبناء عصره حيث كانت المشاركة عندهم في العلوم تبدأ في مرحلة التخصص.
وقد أكسبه اشتغاله بالرياضيات والهيئة والتوقيت شهرة فائقة وحظوة عند رؤساء دولته وأعلامها الكبار , الأمر الذي جعله أملهم ومحل تقديرهم وإعجابهم , فكانوا يدعونه المرة تلو المرة إلى فاس لإلقاء دروس الحساب والجبر والتوقيت يحضرها بالإضافة إلى علماء الأمة رؤساؤها وكبارها تشجيعا للعلم والعلماء .
وكان يستعمل الصوم والخلوة طلبا لتصفح أمر الفلك .
وقد وصل في علم الهيئة والنجوم غاية لم يلحقها أحد من أهل زمانه مع اتصافه بطهارة الاعتقاد , واعتبار السنة .
غزارة الإنتاج العلمي:
تخرج على يد ابن البناء علماء كثيرون وفلاسفة عديدون كانوا محل عناية تامة من الشعب وكبرائه, وكانوا نبراسا استضاء بهم العصر المريني الثاني وازدهرت بهم حواضر المغرب وبواديه في جميع ميادين الحضارة وفنونها من أشهرهم أبو زيد عبد الرحمن ابن أبي الربيع اللحائي والعلامة القلصادي.
ترك ابن البناء مؤلفات عديدة ترجم بعضها إلى اللغات العالمية الحية مثل, الفرنسية والإيطالية والإسبانية.
حاشية على الكشاف, منهى السلوك في علم الأصول, كليات في المنطق , وكليات في العربية, المقالات الخمس في الحساب, الروض المريع في صناعة البديع, تلخيص أعمال الحساب, منهاج الطالب لتعديل الكواكب, مقالة في علم الاسطرلاب.
المراجع :
1 ـ مجلة دعوة الحق
مجلة شهرية تعنى بالدراسات الإسلامية وبشؤون الثقافة والفكر
تصدرها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية
السلسلة الرابعة والخمسون ـ العدد 77 ـ
2 ـ غستون دوفردان
تاريخ مراكش من التأسيس إلى الحماية (1912م)
ترجمه الأستاذان: محمد الزكراوي وخالد المعزوزي
الجزء: الأول / الصفحة:
الطبع : دار أبي رقراق للطباعة والنشر
الناشر : وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية
الطبعة :الأولى 1433 هـ / 2012