مرحلة التمكين والتوسع:
بعد أن أرست الحركة المرابطية قاعدتها في الصحراء , وسيطرت على جل محاور تجارة القوافل جنوب شرق المغرب, انتقلت في عهد يوسف ابن تاشفين ( 453 ـ 500هـ ) إلى مرحلة جديدة من تاريخها تحولت فيها إلى دولة مترامية الأطراف , حيث مدت نفوذها على كامل المغرب الأقصى إلى جانب الجزء الغربي من المغرب الأوسط وبلاد الأندلس .
وإذا طبقنا النظرية الخلدونية على هذه الحركة فيمكننا اعتبار المرحلة السابقة ـ أي مرحلة الدعوة الياسينية والإمارة الصحراوية ـ بمثابة مرحلة التأسيس , بينما تعتبر المرحلة التي نحن بصددها بمثابة مرحلة الازدهار والتمكين والتوسع.
عوامل توحيد البلاد عند المرابطين:
إن الدولة المرابطية في طور ازدهارها وقوتها, كدولة وسيطة, لم تهتم سياسيا بالمصالح العمومية والمنافع الدنيوية اهتماما واضحا, ولم يكن هذا النوع من المصالح من بين اختصاصاتها الشرعية, وما تحقق من هذه الناحية كان قصدا عرضيا أو إنجازا مجتمعيا خالصا, لكنها في المقابل اعتنت بالمصالح الشرعية كحفظ الأمن, ونشر العدل, ونتجقيق الوحدة, وجهاد الكفار ونصرة المسلمين في الأندلس.
ومن ثم , وانطلاقا من هذه الخاصية استطاعت الدولة المرابطية توحيد الغرب الإسلامي سياسيا بصورة غير مسبوقة, كما نجحت أيضا في ربط الصلة مجددا بين الخلافة الإسلامية في المشرق وبلاد المغرب بعد انقطاع هذه الصلة مدة طويلة . وقد اعتمدت دولة المرابطين من الناحية النظرية في تحقيق مشروعها التوحيدي وتحقيق حد أدنى من الاندماج بين العصبيات الرئيسية المشكلة للمغرب الأقصى على طبقة الفقهاء, التي استدلت شرعا على وجوب الوحدة الإسلامية وحرمة التفرق والتعصب , واعتمدت من الناحية السياسية والعملية على عصبية غضة وطرية وهي عصبية صنهاجة الصحراء ( لمتونة ومسوفة وجدالة و التي تحملت عناء تحقيق هذه الغايات الأخلاقية في بيئة قبلية شديدة الاعتبار للعصبية, وتفوقت على غيرها من عصبيات المغرب, خاصة زناتة ومصمودة.
آثار الوحدة السياسية عند المرابطين:
وكان من أثر هذه الوحدة السياسية وقوة شوكة القائمين عليها من المرابطين انتشارالعدل والأمن في ربوع المغرب كافة , حيث” لم يجر في عملهم طول أيامهم رسم مكس , ولا معونة, ولا خراج في بادية ولا في حاضرة .
وكانت أيامهم أيام دعة ورفاهية, ورخاء متصل وعافية وأمن ” ومن ناحية أخرى اعتنى المرابطون عناية واضحة بأمر الجهاد, واستجابوا بسرعة ومسؤولية لصريخ الأندلس ونداءات الاستغاثة التي جاءتهم من أمراء, وعلماء, وعامة الأندلس, وقدموا في هذا السياق يد المعمنة والمساعدة للأندلسيين, وانتقلوا بجيوشهم لملاقاة جموع النصارى, وألحقوا بها الهزائم المتتالية, ووقفوا عند هذا الدور ولم يتجاوزوه إلا بعد أن ظهرت لهم استحالة إنقاد الأندلس وحمايتها مع بقاء حكام الطوائف المتصارعين والمتآمرين على بعضهم البعض, والمتعاونين مع أعدائهم من النصارى. ومن ثم , فقد قضى المرابطون معظم وقتهم في جهاد أهل القبلة من القبائل المتعصبة والمتقاتلة في المرحلة الأولى, وجهاد النصارى بالأندلس في المرحلة الثانية , ولم يفتر حماسهم الجهادي إلا بعد ظهور مهدي الموحدين بينهم بمراكش.
الإنجازات السياسية:
لقد شكلت الإنجازات السياسية التي حققها المرابطون وعلى رأسها بناء دولة مركزية قوية على معظم بلاد الغرب الإسلامي, والظروف الجديدة التي أحدثتها هذه الإنجازات, أساس الحضارة المغربية في عصر الدول الكبرى خلال العصر الوسيط, فالمدة التي قضاها المرابطون في حكم المغرب والتي تقدر بنحو تسعين عاما (452 ـ 540هـ ), والانشعالات العسكرية السياسية التي انشغلوا بها , خاصة في الأندلس, لم تتح لهم فرصة تحقيق إنجازات حضارية نوعية وذات قيمة , ويعتبر في هذا السياق ما تحقق من الناحية الحضارية في العصر الموحدي والذي يليه من النتائج غير المباشرة للإنجاز السياسي المرابطي .
وبالرغم من الظروف غير المساعدة على الإنجاز الحضاري, والتي حالت دون تحقيق المرابطين لإنجازات نوعية , فقد خلف المرابطون وراءهم ما يدل على وسع استعدادهم الحضاري, وأن الزمان والظروف التي مرت بها دولتهم لم تسعفهم في بلوغ الغاية في هذا الباب, ومن أبرز هذه الآثار مدينة مراكش, التي تعد أكبر إنجاز عمراني مرابطي .
نشأت مراكش وتطورت ( كالكوفة والقيروان)عفويا بدون تخطيط مسبق وتوجيه منسق يحدد للأفراد والجماعات أمكنة لإقامتها وأنشطتها التجارية والمهنية وتصميم شبكة الطرق والأزقة ومنافذ لتسهيل المرور سواء للإنسان أو الحيوان وتخصيص بقع ـ المرافق الحيوية منها والاجتماعية والدينية : عمومية كانت أو خصوصية. فسعة المساحة دفعت بهم إلى تشييد أحياء متباعدة بعضها عن بعض, رعيا للانتماء القبلي امتزج فيها الطابع الصحراوي بالطابع المحلي بما لكل منهما من حسنات وسيئات.
تلخصت المدينة في النسيج المعماري المنحصر داخل الأسوار التي شيدت منذ عهد علي بن يوسف المرابطي ، وقد طبع هذا المجال الحضري بمدينة سلطانية (قصر الحجر ثم القصبة ) ، وبرياضات القواد والأعيان ، فبسكنه الشعبي ومجاله الحرفي بمميزات معمارية وتهيئة مجالية يمتزج فيها التأثير الصحراوي الإفريقي والتأثير المتوسطي الشرقي، فأعطاه هنداما خاصا جعل منها متحفا لتقاليد وتقنيات العالم المتحضر المعروف في ميادين البناء والحرف وإعداد التراب.( وقد تم تفصيل ذلك في مقالة نشرت في هذا الموقع تحت عنوان : بغداد المغرب من التأسيس إلى الازدهار ).
ويمكن أن نؤكد بدون مجازفة أن مدينة مراكش هي أو مدينة مغربية حقيقية ، إذ أن كل المراكز الحضرية التي سبقتها اتسمت بطابع الجهوية المحدودة ،فاس البالي بأزقتها الضيقة وساكنتها وحرفها تذكر بالشرق العربي والشرق الأقصى وتمزج المؤثرات المتوسطة الإغريقية الرومانية بالمؤثرات العربية الإسلامية
أغمات ودمنات تحمل البصمات التقنية لأهل الجبال الذين اعتنقوا الإسلام دون التفريط ببعض العادات والتقاليد الخاصة بهم. سجلماسة مدينة تأثرت بالنمط الصحراوي الإفريقي الذي نوعه مجيء الإسلام.
ومرد كل ذلك الى استفادة مراكش المدينة من ظروف طبيعية جيدة ومن ظرفية سياسية متميزة صادفت تكوين أكبر إمبراطورية بشمال إفريقية امتدت من إسبانيا شمالا ، إلى السنغال ومالي جنوبا ، ومن المحيط الأطلنطي في ظل المرابطين والموحدين ، فاستقطبت النخبة الفكرية والأدبية ، وأمهر الصناع والحرفيين .فصارت مدينة مختلطة الأجناس استفادت من تنوع التقنيات والخبرات المعروفة في المعمار وتصور تهيئة المجال والحرف والمعمار والمهن ، تتجلى في أحيائها السكنية والحرفية بصمات الجهات الجغرافية الخاصة بشمال الأطلس الكبير وبجنوبه.
المراجع :
1 ـ د. عمر أمكاسو
المشروع المرابطي في الأندلس : بين النجاح والإخفاق
الصفحات : 48 ـ 49
الطبع : مطبعة إفريقيا الشرق
الطبعة بدون : 2016 م
2 ـ امحمد جبرون
تاريخ المغرب: من الفتح الإسلامي إلى الاحتلال
الصفحات : 210 ـ 211
الطبع : منتدى العلاقات العربية والدولية ـ الدوحة ـ قطر
الطبعة : الأولى 2019 م
3 ـ أحمد بن الشرقي حصري ـ مراكش المجال والإنسان
الصفحة : 43
الناشر : منتدى ابن تاشفين ـ المجتمع والمجال ـ اتصالات سبو
الطبع : مطبعة النجاح الجديدة ـ الدار البيضاء
الطبعة : الثانية 2013م
4 ـ ـ عبد القادر عرابي
مراكش , التأسيس والتسمية
دراسات ونصوص تاريخية
الصفحة : 137-138
الناشر :مؤسسة آفاق للدراسات والنشر والاتصال
الطبع : المطبعة والوراقة الوطنية ـ مركش
الطبعة الأولى ـ 2015 م