شرعية الحكم:
لقد اعتمدت الدولة المرابطية من حيث شرعيتها وأحقيتها في الحكم على مصدرين رئيسين:
ـ مصدر أخلاقي يتمثل في مجموعة من الشعارات والغايات النبيلة التي رفعتها, كسعيها للقضاء على الفرقة السياسية والتناحر القبلي الذي كان متفشيا في بلاد المغرب, والذي أنكره الفقهاء والعامة على حد السواء, وتحرير الناس من المغارم والمكوس التي كانوا يعانون من ثقلها مع حكام الجور, والعمل بمقتضى الكتاب والسنة.
ـ مصدر سياسي يتمثل في التغلب والقدرة على إنفاذ الأمر, وهو ما وفرته وضمنته العصبية الصنهاجية القوية, والبيعة الشرعية وأيضا عهد أو تقليد الخليفة العباسي, واعتبارهم جزءا من الخلافة الإسلامية الكبرى.
وقد حاول المرابطون وأمراؤهم في طور الدولة التحقق من هذه الشرعيات والعمل بمقتضاها بنسب متفاوتة, وعلى رأس هؤلاء أمير المسلمين يوسف بن تاشفين.
أبو بكر بن عمر : القائد الحكيم
اجتمع أشياخ المرابطين وخاصتهم بعد مقتل عبد الله بن ياسين (451هـ )على أبي بكر بن عمر وبايعوه أميرا بعده بإشارة منه, غير أن مدة حكمه كانت قصيرة لن تتجاوز السنتين.
كَانَ الْأَمِير أَبُو بكر بن عمر اللمتوني قد تزوج زَيْنَب بنت إِسْحَاق النفزاوية وَكَانَت بارعة الْجمال وَالْحسن, وَكَانَت مَعَ ذَلِك حازمة لَبِيبَة ذَات عقل رصين ورأي متين وَمَعْرِفَة بإدارة الْأُمُور, حَتَّى كَانَ يُقَال لَهَا الساحرة. فَأَقَامَ الْأَمِير أَبُو بكر عِنْدهَا بأغمات نَحْو ثَلَاثَة أشهر ثمَّ ورد عَلَيْهِ رَسُول من بِلَاد الْقبْلَة فَأخْبرهُ باختلال أَمر الصَّحرَاء وَوُقُوع الْخلاف بَين أَهلهَا.
كَانَ الْأَمِير أَبُو بكر رجلا متورعا, فَعظم عَلَيْهِ أَن يقتل الْمُسلمُونَ بَعضهم بَعْضًا وَهُوَ قَادر على كفهم, وَلم ير أَنه فِي سَعَة من ذَلِك, وَهُوَ متوالي أَمرهم ومسؤول عَنْهُم, فعزم على الْخُرُوج إِلَى بِلَاد الصَّحرَاء ليصلح أمرهَا وَيُقِيم رسم الْجِهَاد بهَا.
وَلما عزم على السّفر طلق امْرَأَته زَيْنَب وَقَالَ لَهَا عِنْد فِرَاقه إِيَّاهَا :” يَازَيْنَب إِنِّي ذَاهِب إِلَى الصَّحرَاء وَأَنت امْرَأَة جميلَة بضة لَا طَاقَة لَك على حَرَارَتهَا وَإِنِّي مطلقك فَإِذا انْقَضتْ عدتك فَانْكِحِي ابْن عمي يُوسُف بن تاشفين فَهُوَ خليفتي على بِلَاد الْمغرب”.
طلقهَا ثمَّ سَافر عَن أغمات وَجعل طَرِيقه على بِلَاد تادلا حَتَّى أَتَى سجلماسة فَدَخلَهَا وَأقَام بهَا أَيَّامًا حَتَّى أصلح أحوالها ثمَّ سَافر إِلَى الصَّحرَاء.
َكَانَ سفر أبي بكر بن عمر إِلَى الصَّحرَاء فِي ذِي الْقعدَة سنة ثَلَاث وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة وَلما وصل إِلَيْهَا أصلح شَأْنهَا ورتب أحوالها وَجمع جَيْشًا كثيفا وغزا بِهِ بِلَاد السودَان فاستولى مِنْهَا على نَحْو تسعين مرحلة.
تدبير انتقال السلطة:
كان يوسف بن تاشفين قائدا مميزا في جيش المرابطين, وهو ما أهله لولاية المغرب الأقصى دون غيره من القادة بعد رجوع ابن عمه إلى الصحراء.
ولم يختلف نهجه خلال مدة خلافته عن نهج ابن ياسين وأبي بكر, وكان يكاتب مستخلفه طوال مدة غيابه بالصحراء ـ والتي تقدر بسنة تقريبا ـ بكل ما يصنع , غير أن هذه المدة على قصرها كانت كافية بالنسبة إلى يوسف لتنشأ بينه وبين المنصب الذي اعتلاه مؤقتا علاقة وجدانية , فاهتم بذلك , وسعى للاستئثار به بإشارة من زوجه زينب النفزاوية طليقة أبي بكر بن عمر التي امتازت بالذكاء والحكمة.( وقد تم تفصيل ذلك في مقالة نشرت بهذا الموقع تحت عنوان : زينب النفزاوية سيدة مراكش الأولى )
لَمَّا قرب أَبُو بكر بن عمر من أَعمال الْمغرب خرج إِلَيْهِ يُوسُف بن تاشفين فَلَقِيَهُ على بعد وَسلم عَلَيْهِ وَهُوَ رَاكب سَلاما مُخْتَصرا, وَلم ينزل لَهُ وَلَا تأدب مَعَه الْأَدَب الْمُعْتَاد فَنظر أَبُو بكر إِلَى كَثْرَة جيوشه فَقَالَ لَهُ : يَا يُوسُف مَا تصنع بِهَذِهِ الجيوش؟
قَالَ : أستعين بهَا على من خالفني.
فارتاب أَبُو بكر بِهِ, ثمَّ نظر إِلَى ألف بعير قد أَقبلت موقرة فَقَالَ :” مَا هَذِه الْإِبِل الموقرة ؟
قَالَ :” أَيهَا الْأَمِير إِنِّي قد جئْتُك بِكُل مَا معي من مَال وأثاث وَطَعَام وإدام لتستعين بِهِ على بِلَاد الصَّحرَاء.
فازداد أَبُو بكر تعرفا من حَاله وَعلم أَنه لَا يتخلى لَهُ عَن الْأَمر.
فَقَالَ لَهُ : ” يَا بن عَم انْزِلْ أوصيك.
فَنزلَا مَعًا وجلسا. فَقَالَ أَبُو بكر: ” إِنِّي قد وليتك هَذَا الْأَمر وَإِنِّي مسؤول عَنهُ فَاتق الله تَعَالَى فِي الْمُسلمين وأعتقني وَأعْتق نَفسك من النَّار وَلَا تضيع من أُمُور رعيتك شَيْئا فَإنَّك مسؤول عَنهُ وَالله تَعَالَى يصلحك ويمدك ويوقفك للْعَمَل الصَّالح وَالْعدْل فِي رعيتك وَهُوَ خليفتي عَلَيْك وَعَلَيْهِم”
ودعه وَانْصَرف إِلَى الصَّحرَاء, فَأَقَامَ بهَا مواظبا على الْجِهَاد فِي كفار السودَان إِلَى أَن اسْتشْهد من سهم مَسْمُوم أَصَابَهُ فِي شعْبَان سنة ثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة بعد أَن استقام لَهُ أَمر الصَّحرَاء كَافَّة إِلَى جبال الذَّهَب من بِلَاد السودَان وَالله غَالب على أمره.
سياسة ابن تاشفين في تدبير أمور الحكم:
كَانَ أَمِير الْمُسلمين يُوسُف بن تاشفين حازما سائسا للأمور, ضابطا لمصَالح مَمْلَكَته مؤثرا لأهل الْعلم وَالدّين, كثير المشورة لَهُم , وَكَانَ يخْطب لبني الْعَبَّاس وَهُوَ أول من تسمى بأمير الْمُسلمين دون أَمِير الْمُؤمنِينَ أدبا مَعَ الْخَلِيفَة حَتَّى لَا يُشَارِكهُ فِي لقبه لِأَن لقب أَمِير الْمُؤمنِينَ خَاص بالخليفة والخليفة من قُرَيْش كَمَا فِي الحَدِيثوحِين ورد عَلَيْهِ التَّقْلِيد من الْخَلِيفَة ضرب السِّكَّة باسمه وَنقش على الدِّينَار” لَا إِلَه إِلَّا الله مُحَمَّد رَسُول الله” وَتَحْت ذَلِك أَمِير الْمُسلمين يُوسُف بن تاشفين وَكتب على الدائرة {وَمن يبتغ غير الْإِسْلَام دينا فَلَنْ يقبل مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَة من الخاسرين} وَكتب على الصفحة الْأُخْرَى عبد الله أَحْمد أَمِير الْمُؤمنِينَ العباسي وعَلى الدائرة تَارِيخ ضربه وَمَوْضِع سكته.
وَكَانَ ملكه قد انْتهى إِلَى مَدِينَة أفراغه من قاصية شَرق الأندلس وَإِلَى مَدِينَة أشبونة على الْبَحْر الْمُحِيط من بَحر الأندلس, وَذَلِكَ مسيرَة ثَلَاثَة وَثَلَاثِينَ يَوْمًا طولا, وَفِي الْعرض مَا يقرب من ذَلِك.
وَملك بعدوة الْمغرب من جزائر بني مذغنة إِلَى طنجة إِلَى آخر السوس الْأَقْصَى إِلَى جبال الذَّهَب من بِلَاد السودَان.
المراجع :
1 ـ امحمد جبرون
تاريخ المغرب الأقصى : من الفتح الإسلامي إلى الاحتلال
الصفحة : 192 ـ 193
الطبع : منتدى العلاقات العربية والدوليةـ الدوحة ـ قطر
الطبعة الأولى : 2019 م
2 ـ أبو العباس شهاب الدين الناصري ( ت 1315 هـ )
الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصا
الجزء : 2 / الصفحة : 22
تحقيق : محمد الناصري وجعفر الناصري
الناشر : دار الكتب ـ الدار البيضاء