المدينة الخضراء:
كانت مدينة أغمات في فحص أفيح ، أحسن مكان من الأرض، طيبة التراب ، كثيرة النبات والأعشاب ، تخترقها المياه يمينا وشمالا ، وتطرد بساحتها ليلا ونهارا، معطرة بريح النبات والشجر ، وحولها جنات محدقة ، وعنب ، وبساتين أكثر شجرها الزيتون ، وبها نهر ليس بالكبير يشقها من جنوبها الى شمالها.
كان يعرف باسم تاقيروت أو تاكيروت ، ولا يدخل المدينة سوى أربعة أيام في الأسبوع، وفي الثلاث البواقي يقطعونه عنها لسقي أراضيهم في العلاوة ، وكانت أرحاؤهم كثيرة وحركاتها به ، وربما جمد النهر في زمن الشتاء فيفرج الصبيان ويتزلقون عليه.
الازدهار التجاري بأغمات:
وروي أن أميرهم كان يتولى أمرهم سنة واحدة فقط ، وما كان ذلك بمانع مغراوة من الاختصاص بالإمارة ، لأن البكري ذكر أن ذلك كان بينهم عن تراض واتفاق .
لقد كانت أغمات في المقام الأول سوقا لأهلها يقوم يوم الأحد، تمتار من الناحية كلها : كان يذبح فيه يوم انعقاده أكثر من مائة ثور وألف شاة، وليست هذه الأعداد إحصائيات مضبوطة ، إنما يستفاد منها أن سوقها كان جامعا مقصودا . وكان أهلها أكثر الناس تكسبا وأطلبهم للرزق ، وكانوا يكلفون نساءهم وصبيانهم التحرف والتكسب ، ولم تنعدم بينهم المعاملات المصرفية.
وكان أكبر مكاسبهم من دخول قوافلهم الى الصحراء : كانوا يوقرون الى بلاد السودان النحاس الاحمر سبائك والأكسية وثياب الصوف وضروبا من العطر وآلات الحديد ، وما منهم تاجر غلا وله في قوافلهم السبعون جملا والمائة والثمانون جملا ولعلك فطنت إلى إن هذه القوافل عند عودتها من النيجر والسودان تجلب معها ما يحمل منهما منذ القديم : أعني التبر والآبنوس وضروب الأفاويه والرقيق .
مركز المشروع المرابطي :
إن استقرار المرابطين بأغمات دعم فكرتهم السياسية والعقدية الهادفة إلى إنشاء دولة قوية . وظهر هذا من خلال تشبثهم بفكرة محاربة الكفر والدفاع عن المسلمين ضد أعدائهم ، بتركيز العقيدة الصحيحة في كل مكان من أرجاء الدولة الناشئة .
ولم يكن وجود المرابطين بالمنطقة وجودا طارئا لاينظر إليه المصامدة سكان الجبل والحوز بعين الارتياح, وهم في البداية اتخذوا عاصمة جاهزة لتسيير تحركاتهم قبل الاختصاص بمكان يركزون فيه أمور دولتهم ، ويديرون من خلاله دفة الحكم الذي قضى على عصر الإمارة المحصورة في مراكز حضرية محدودة التأثير إلى إنشاء الدولة ذات الأفق الواسع والنفوذ القوي. لأن دخول المرابطين إلى أغمات لم يكن بسبب فتنة أو ضرورة اقتضت تدخلهم ، لأن هذه الفترة عرفت الرخاء والاستقرار مما ساعد الأمراء على البناء والتشييد ، والتعمير ، وتنشيط الأعمال التجارية والفلاحية والصناعية. انعكس هذا على عامل الاتصال بين أطراف العدوتين واستغلال المراكز الحضرية ذات المواقع المهمة .وحقق على ما يبدو ظاهريا الاندماج بين القبائل ، والعناصر الطارئة الظهور بالمنطقة ، ولو على مستوى محدود من مجال أغمات .
ذكاء وخبرة المرأة الأغماتية:
بعد ثلاثة أشهر من استقرارالمرابطين بأغمات ، خرجوا لغزو برغواطة ،عاقدين العزم على القضاء عليهم. فكان نزال صعب بين الطرفين قتل فيه العديد من الرجال وضاع بسببه الكثير من المال.
وشكلت النحلة البرغواطية هاجسا قويا لدى ابن ياسين الذي عزم على القضاء عليها ولم يعتقد أنها ستؤدي بحياته.
بموت عبد الله بن ياسين ، انتقلت الزعامة الدينية لأبي بكر ، وأصبح بذلك الرجل الأول في أغمات.
ونظرا لمكانة زينب في أهلها وقومها كانت متصدرة للأخبار المتناقلة بين الرواة والإخباريين . وتألق نجم هذه المرأة المميزة عاليا ، كونها السيدة الأولى في المجتمع الأغماتي ، حيث عاشت مرحلة المشيخة بأغمات ، وهي زوجة يوسف بن علي المغراوي أمير أغمات ، وهي مرحلة الإمارة .ثم اختار أبو بكر بن عمر القرن بها ، فصارت زوجته بحكم موقعه السياسي ومكانته في التنظيم المرابطي .
لكن زينب فضلت البقاء في أغمات دون الخروج مع حشم لقوط الفار إلى تادلا بنفسه منهزما ، فاختارت العيش مع المنتصر قرب أهلها ، على التغرب دليلة غريبة عن موطنها . وقليل من النساء من يملكن هذه الفطنة وحسن الاختيار. ولعل انتسابها لهذه المدينة المعروف عن أهلها التكسب والتجارة أكسبها هذه البديهة التي يتصف بها التجار على العادة.
حزم هذه المرأة، وكونها مبادرة لدرايتها بالأمور الوقتية جعلها القائمة بشأن زوجها وهي العالمة بلسان قومها، والخبيرة بشؤون المنطقة .( تم تفصيل ذلك في مقالة نشرت بهذا الموقع تحت عنوان : زينب النفزاوية سيدة مراكش الأولى ) وبحكم هذه الخبرة أضحت مستشارة أولى للأمير الزوج الذي لا يتردد في اتباع ما تشير به عند الضرورة.
فسكنى أبي بكر وإخوانه من لمتونه – والمرابطين عموما – كان بالأخبية على العادة الصحراوية خارج سور المدينة , لأنهم لم يستأنسوا بعد بالمنازل المبنية. ولما ابتنى ابو بكر بزوجه زينب انتقل من سكناه بخارج المدينة إلى داخلها.
رحلة البحث عن الموطن الجديد :
بفعل انتقال الأمير بسكناه إلى داخل المدينة زاد الخلق بأغمات بفعل تقليد الأمير .
فكثر الضغط والهرج والمرج والشكوى, وعليه تم اختيار أشياخ هيلانة وهزميرة ، دون أشياخ وريكة على أن يعينوا موضعا حيث يكون بناء المدينة المرتقبة.
فاجتمع أشياخ قبائل المصامدة وغيرهم ، إذا لم يقتصر حل النزاع على الأطراف المتنازعة ، بل اشتركت فيه أطراف أخرى ساهمت في حل الأزمة ، فوقع تدبيرهم على أن يكون موقع تلك المدينة بين بلاد هيلانة وبلاد هزميرة فعرفوا بذلك أميرهم أبا بكر بن عمر وقالوا له : قد نظرنا لك موضع صحراء لا أنيس به إلا الغزلان والنعام ولا تنبت إلا السدر والحنظل .
ولم يقبل أن تكون المدينة على واد تانسيفت فامتنع لهم من ذلك ، لأنه لا يصلح لمواشيهم وسكناهم بالقرب منه لخوف الفيض ، وقد عبر عن ذلك أصحاب الرأي من المرابطين بقولهم نحن من أهل الصحراء ومواشينا معنا لا يصلح لنا السكنى على الوادي ,فكان لهذا الاختيار أسباب ودواعي رغم طابعها الصحراوي ، لكي يكون وادي نفيس جنانها ، ودكالة فدانها، وزمام جبل درن بيد أميرها طول زمانها . فركب الأمير أبو بكر في عسكره مع أشياخ القبائل فمشوا معه الى فحص مراكش وهو خلاء لا أنيس به فقالوا له : ابن هنا مدينة تكون متوسطة بين هيلانة وهزميرة .
ركب الأمير أبو بكر ومن معه من قومه الملثمين، وأشياخ المصامدة ووجوه الناس. وساروا معه إلى فحص مراكش وهو خلاء ولا أنيس به إلا الغزلان والنعام ، ولا ينبت إلا السدر والحنظل .فانتقلوا إلى تلك الرحبة ، فوجدوا في فحصها من المسرح الخصيب للجمال والدواب ما يرضيهم.
وشرع الناس في بناء الدور من غير تسوير عليها , وهذا يظهر تحولا في الفكر المرابطي وأخلاقهم الاجتماعية ’ اذا شرعوا في بناء الدور وتخلوا عن التفكير في الأخبية التي لا زالت مضروبة خارج أسوار أغمات.
لماذا همشت أغمات؟
أصبحت العلاقة بين الموقعين – أغمات ومراكش علاقة مركز بمحيطه بعد أن كانت ركن انطلاق المشروع المرابطي الذي مضى قدما في تشكيل مقومات الاستقرار والاستقلال يقوى على قمع اهل تلك الجبال واتخاذها مقرا فلم يتحرك أحد بفتنة.
فصارت مراكش محط الاهتمام ومركزه ، وقل نظيره بالنسبة لأغمات ، وإن كان على مستوى الظاهري الذي كان يؤلف صورتها لدى الإخباريين ، وبقي على مستوى خفي في علاقتها التجارية ودورها الاقتصادي الذي سلبته منها مراكش فيما بعد .
وهمشت أغمات عن المحاور التي كانت تربط سجلماسة بفاس عبر أغمات ، وعبر أغمات في اتجاه الجنوب او رباط أكوز حيث مرساها البحري .وتصدرت مراكش هذه المحورية حيث ازدادت أهمية المدينة بما توفره من فنادق وقساريات ، نتيجة ما قام به المرابطون من إعطاء العاصمة ما يليق بها.
كان مصير أغمات الإداري أن ألحقت بولاية مراكش العاصمة الجديدة ، ومقر الحكم .سرى عليها حكم الولاية وكانت أقرب الولايات الى مراكش , وقد ربط اسمها باسم المعتمد بن زياد الذي آل به المصير إليها فآوته قصبتها حين سجن بها .
المراجع :
1 ـ غستون دوفردان
تاريخ مراكش من التأسيس إلى الحماية ( 1912م)
ترجمه الأستاذان ـ: محمد الزكراوي وخالد المعزوزي
الجزء: 1 ـ الصفجة : 63
الناشر : وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية
الطبع: دار أبي رقراق للطباعة والنشر والاتصال
الطبعة : الأولى 2012م ـ 1433هـ
2 ـ أ. د. عبد الرزاق بن عمر أزريكم
مدينة أغمات وماإليها
في التاريخ الإقتصادي والاجتماعي للمدينة الوسطية ببلاد المغرب
الصفحات : 107 ـ 108 ـ 109 ـ110 ـ 111 ـ 112 ـ 113 ـ114 ـ 123
الطبع : المطبعة والوراقة الوطنية ـ مراكش
الطبعة : الأولى 2012م